فصل: ثم دخلت سنة ست وثلاثمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر حال هذه البلاد بعد مسير مؤنس

لمّا سار مؤنس عن أذربيجان إلى العراق وثب سُبُك غلام يوسف بن أبي الساج على بلاد أذربيجان فملكها واجتمع إليه عسكر عظيم فأنفذ إليه مؤنس محمّدَ بن عبيدالله الفارقيَّ وقلّده البلاد وسار إلى سُبُك وحاربه فانهزم الفارقيُّ وسار إلى بغداد وتمكّن سُبُك من البلاد ثمّ كتب إلى الخليفة يسأل أن يقاطع على أذربيجان فأجيب إلى ذلك وقُرّر عليه كلّ سنة مائتان وعشرون ألف دينار وأُنفذت إليه الخلع والعهد فلم يقف على ما قرّره‏.‏

ثمّ وثب أحمد بن مسافر صاحب الطرم على ابن أخيه عليّ بن وهسوذان وهو مقيم بناحية قزوين فقتله على فراشه وهرب إلى بلده فاستعمل مكان عليّ بن وهسوذان وصيفًا البكتمريَّ وقلّد محمّد بن سليمان صاحب الجيش أعمال الخراج بها‏.‏

وسار أحمد بن عليّ بن صعلوك من قُمّ إلى الريّ فدخلها فأنفذ الخليفة ينكر عليه ذلك ويأمره بالعود إلى قمّ فعاد ثمّ إنّه أظهر الخلاف وصرف عمّال الخراج عن قمّ واستعدّ للمسير إلى الريّ فكوتب نحرير الصغير وهو على هَمذان ليسير هو ووصيف إلى الريّ لمنع أحمد بن عليّ عنها فساروا إليها فلقيهم أحمد بن عليّ على باب الريّ فهزمهم أحمد وقُتل محمّد ابن سليمان واستولى أحمد على الريّ وكاتب نصرًا الحاجب ليصلح أمره مع الخليفة ففعل ذلك وأصلح أمره وقرّر عليه عن الريّ ودنباوند وقَزوين وزنجان وأبهر مائة وستّين ألف دينار محمولة كلّ سنة إلى بغداد فنزل أحمد عن قمّ فاستعمل الخليفة عليها من ينظر فيها‏.‏

  ذكر تغلّب كثير بن أحمد على سجستان ومحاربته

كان كثير بن أحمد بن شهفور قد تغلّب على أعمال سجستان فكتب الخليفة إلى بدر بن عبدالله الحمّاميّ وهو متقلّد أعمال فارس يأمره أن يرسل جيشًا يحاربون كثيرًا ويؤمّر عليهم دردا ويستعمل على الخراج بها زيد ابن إبراهيم فجهّز بدر جيشًا كثيفًا وسيّرهم فلمّا وصلوا قاتلهم كثير فلم يكن له بهم قوّة وضعف أمره وكادوا يملكون البلد فبلغ أهل البلد أنّ زيدًا معه قيود وأغلال لأعيانهم فاجتمعوا مع كثير وشدّوا منه وقاتلوا معه فهزموا عسكر الخليفة وأسروا زيدًا فوجدوا معه القيود والأغلال فجعلوها في رجليه وعنقه‏.‏

وكتب كثير إلى الخليفة يتبرّأ من ذلك ويجعل الذنب فيه لأهل البلد فأرسل الخليفة إلى بدر الحمّاميّ يأمره أن يسير بنفسه إلى قتال كثير فتجهّز بدر فلمّا سمع كثير ذلك خاف فأرسل يطلب المقاطعة على مال يحمله كل سنة فأُجيب إلى ذلك وقوطع على خمسمائة ألف درهم وقُرّرت البلاد عليه‏.‏

  ذكر عدّة حوادث

في هذه السنة في الصيف خافت العامّة ببغداد من حيوان كانوا يسمّونه الزبزب ويقولون إنّهم يرونه في الليل على سطوحهم وإنّه يأكل أطفالهم وربّما عضّ يد الرجل وثَدْيَ المرأة فقطعهما وهرب بهما فكان الناس يتحارسون ويتزاعقون ويضربون بالطشوت والصوانيّ وغيرها ليفزعوه فارتجَّتْ بغداد لذلك‏.‏

ثم إنّ أصحاب السلطان صادوا ليلة حيوانًا أبلق بسواد قصير اليدين والرجلين فقالوا‏:‏ هذا هو الزبزب وصلبوه على الجسر فسكن الناس وهذه دابّة تسمّى طبرة وأصحاب اللصوص حاجتهم لاشتغال الناس عنهم‏.‏

وفيها توفّي الناصر العلويُّ صاحب طَبَرِسْتان في شعبان وعمره تسع وسبعون سنة وبقيت طبرستان في أيدي العلويّة إلى أن قُتل الداعي وهو الحسن بن القاسم سنة ستّ عشرة وثلاثمائة على ما نذكره‏.‏

وفيها خالف أبو يزيد خالد بن محمّد المادرائيُّ على المقتدر بالله بكرمان وكان يتولّى الخراج وسار منها إلى شيراز يريد التغلّب على فارس فخرج إله بدر الحمّاميُّ فحاربه وقتله وحُمل رأسه إلى بغداد وطيف به‏.‏

وفيها سار مؤنس المظفَّر إلى بلاد الروم لغزاة الصائفة فلمّا صار بالموصل قلّد سُبُك المفلحي بازَبْدَى وقَرْدَى وقلّد عثمانَ العنزيَّ مدينة بلد وباعيناثا وسنجار وقلّد وصيفًا البكتمريَّ باقي بلاد ربيعة وسار مؤنس إلى مَلَطْية وغزا فيها وكتب إلى أبي القاسم عليّ بن أحمد ابن بِسطام أن يغزو من طَرَسُوس في أهلها ففعل‏.‏

وفتح مؤنس حصونًا كثيرة من الروم وأثر آثارًا جميلة وعتب عليه أهل الثغور وقالوا‏:‏ لو شاء لفعل أكثر من هذا وعاد إلى بغداد فأكرمه الخليفة وخلع عليه‏.‏

وفيها توفّي يَمُوتُ بن المزرّع العبديُّ وهو ابن أخت الجاحظ وسليمان بن محمّد بن أحمد أبو موسى النحويُّ المعروف بالحامض أخذ العلم عن ثعلب وكانت وفاته في ذي الحجّة وكان من أصحاب ثعلب ويوسف ابن الحسين بن عليّ أبو يعقوب الرازيّ وهو من أصحاب ذي النون المصريّ وهو صاحب قصّة الفأرة معه‏.‏

  ثم دخلت سنة خمس وثلاثمائة

في هذه السنة في المحرّم وصل رسولان من ملك الروم إلى المقتدر يطلبان المهادنة والفداء فأُكرما إكرامًا كثيرًا وأُدخلا على الوزير وهو في أكمل أُبّهة وقد صفّ الأجناد بالسلاح والزينة التامّة وأدّيا الرسالة إليه ثمّ إنّهما دخلا على المقتدر وقد جلس لهما واصطفّ الأجناد بالسلاح والزينة التامّة وأدّيا الرسالة فأجابهما المقتدر إلى ما طلب ملك الروم من الفداء وسيّر مؤنسًا الخادم ليحضر الفداء وجعله أميرًا على كلّ بلد يدخله يتصرّف فيه على ما يريد إلى أن يخرج عنه وسيّر معه جمعًا من الجنود وأطلق لهم أرزاقًا واسعة وأنفذ معه مائة ألف وعشرين ألف دينار لفداء أسرى المسلمين وسار مؤنس والرسل وكان الفداء على يد مؤنس‏.‏

وفيها أُطلق أبو الهيجاء عبدالله بن حمدان وإخوته وأهل بيته من الحبس وكانوا محبوسين وفيها مات العبّاس بن عمرو الغنويُّ وكان متقلّدًا أعمال الحرب بديار مضر فجُعل مكانه وصيف البكتمريُّ فلم يقدر على ضبط العمل فعُزل وجُعل مكانه جنّي الصفوانيُّ فضبطه أحسن ضبط‏.‏

و في هذه السنة كانت بالبصرة فتنة عظيمة وسببها أنّه كان الحسن ابن الخليل بن رمال متقلّدًا أعمال الحرب بالبصرة وأقام بها سنين وجرت بينه وبين العامّة من مضر وربيعة فتن كثيرة وسكنت ثمّ ثارت بينهم فتنة اتّصلت فلم يمكنه الخروج من منزله برحبة بني نمر واجتمع الجند كلّهم معه وكان لا يوجد أحد منهم في طريق إلاّ قُتل حتّى حوصرت وغُوّرت القناة التي يجري فيها الماء إلى بني نُمير فاضطّر إلى الركوب إلى المسجد الجامع فقتل من العامّة خلقًا كثيرًا‏.‏

فلمّا عجز عن إصلاحهم خرج هو ومعه الأعيان من أهل البصرة إلى واسط فعُزل عنها واستعمل أبو دلف هاشم بن محمّد الخزاعيُّ عليها فبقي نحو سنة وصُرف عنها ووليها سُبُك المفلحيُّ نيابة عن شفيع المقتدريّ‏.‏

وفيها عُقد لثمال الخادم على الغزاة في بحر الروم وسار‏.‏

وفيها غزا جنّي الصفوانيُّ بلاد الروم فغنم ونهب وسبَى وعاد سالمًا‏.‏

و في هذه السنة مات أبو خليفة المحدّثُ البصريُّ‏.‏

وفيها في جُمادى الأولى مات أبو جعفر بن محمّد بن عثمان العسكريُّ المعروف بالسَّمّان ويُعرف أيضًا بالعمريّ رئيس الإماميّة وكان يدّعي أنّه الباب إلى الإمام المنتظر وأوصى إلى أبي القاسم بن الحسين بن روح‏.‏

وفي آخرها توفّي أحمد بن محمّد بن شُريح وكان عالمًا بمذهب الشافعيَّ‏.‏

  ثم دخلت سنة ست وثلاثمائة

  ذكر عزل ابن الفرات ووزارة حامد بن العبّاس

في هذه السنة في جُمادى الآخرة قُبض على الوزير أبي الحسن بن الفرات وكانت مدّة وزارته هذه وهي الثانية سنة واحدة وخمسة أشهر وتسعة عشر يومًا‏.‏

وكان سبب ذلك أنّه أخّر إطلاق أرزاق الفرسان واحتجّ عليهم بضيق الأموال وأنّها أُخرجت في محاربة ابن أبي الساج وأنّ الارتفاع نقص بأخذ يوسف أموال الريّ وأعمالها فشغب الجند شغبًا عظيمًا وخرجوا إلى لمصلّى والتمس ابن الفرات من المقتدر إطلاق مائتَيْ ألف دينار من بيت المال الخاص ليضيف إليها مائتَيْ ألف دينار يحصلها ويصرف الجميع في أرزاق الجند

فاشتدّ ذلك على المقتدر وأرسل إليه‏:‏ إنّك ضمنتَ أنّك ترضي جميع الأجناد وتقوم بجميع النفقات الراتبة على العادة الأولى وتحمل بعد ذلك ما ضمنت أنّك تحمله يومًا بيوم فأراك تطلب من بيت المال الخاص فاحتجّ بقلّة الارتفاع وما أخذه ابن أبي الساج من الارتفاع وما خرج على محاربته فلم يسمع المقتدر حجّته وتنكّر له عليه‏.‏

وقيل‏:‏ كان سبب قبضة أنّ المقتدر قيل له‏:‏ إنّ ابن الفرات يريد إرسال الحسين بن حمدان إلى ابن أبي الساج ليحاربه وإذا صار عنده اتّفقا عليك ثمّ إنّ ابن الفرات قال للمقتدر في إرسال الحسين إلى ابن أبي الساج فقتل ابنَ حمدان في جمادى الأولى وقبض على ابن الفرات في جمادى الآخرة‏.‏ ثمّ إنّ بعض العُمّال ذكر لابن الفرات ما يتحصّل لحامد بن العبّاس من أعمال واسط زيادة على ضمانه فاستكثره وأمره أن يكاتبه بذلك فكاتبه فخاف حامد أن يؤخذ ويطالب بذلك المال فكتب إلى نصر الحاجب وإلى والدة المقتدر وضمن لهما مالًا ليتحدّثا له في الوزارة فذكر للمقتدر حاله وسعة نفسه وكثرة أتباعه وأنّه له أربع مائة مملوك يحملون السلاح واتّفق ذلك عند نفرة المقتدر عن ابن الفرات فأمره بالحضور من واسط فحضر وقبض على ابن الفرات وولده المحسن وأصحابهما وأتباعهما‏.‏

ولّما وصل حامد إلى بغداد أقام ثلاثة أيّام في دار الخليفة فكان يتحدّث مع الناس ويضاحكهم ويقوم لهم فبان للخدم ولأبي القاسم بن الحواريّ وحاشية الدار قلّة معرفته بالوزارة وقال له حاجبه‏:‏ يا مولانا‏!‏ الوزير يحتاج إلى لُبْسه وجَلْسه وعَبْسه فقال له‏:‏ تعني أن تلبس وتقعد فلا تقوم لأحد ولا تضحك في وجه أحد ولا تحدّث أحدًا قال‏:‏ نعم‏.‏

قال حامد‏:‏ إنّ الله أعطاني وجهًا طلقًا وخَلقًا حسنًا وما كنتُ بالذي أعبس وجهي وأقبح خَلقي لأجل الوزارة فعابوه عند المقتدر ونسبوه إلى الجهل بأمور الوزارة فأمر المقتدر بإطلاق عليّ بن عيسى من محبسه وجعله يتولّى الدواوين شبه النائب عن حامد فكان يراجعه في الأمور ويصدر عن رأيه ثمّ إنّه استبدّ بالأمر دون حامد ولم يبق لحامد غير اسم الوزارة ومعناها لعليّ حتّى قيل فيهما‏:‏ هذا وزيرٌ بلا سوادٍ وذا سوادٌ بلا وزير ثمّ أنّ حامدًا أحضر ابن الفرات ليقابله على أعماله ووكّل بمناظرته عليَّ ابن أحمد المادرائي ليصحّح عليه الأموال فلم يقدر على إثبات الحجّة عليه فانتدب له حامد وسبّه ونال منه وقام إليه فلكمه‏.‏

وكان حامد سفيهًا فقال له ابن الفرات‏:‏ أنت على بساط السلطان وفي دار المملكة وليس

هذا الموضع ممّا تعرفه من بَيْدَرٍ تقسمه أو غلّة تستفضل في كيلها ولا هو مثل أكار تشتمه ثمّ قال لشفيع اللؤلؤيّ‏:‏ قل لأمير المؤمنين عني أنّ حامدًا إنّما حمله على الدخول في الوزارة وليس من أهلها إنّني أوجبت عليه أكثر من ألفَيّ ألف دينار من فضل ضمانه وألححت في مطالبته بها فظنّ أنّها تندفع عنه بدخوله في الوزارة وأنه يضيف إليها غيرها فاستشاط حامد وبالغ في شتمه فأنفذ المقتدر فأقام ابن الفرات من مجلسه وردّه إلى محبسه وقال عليُّ بن عيسى ونصر الحاجب لحامد‏:‏ قد جنَيتَ علينا وعلى نفسك جناية عظيمة بما فعلتَه بابن الفرات وأيقظت منه شيطانًا لا ينام‏.‏

ثمّ إنّ ابن الفرات صودر على مال عظيم وضرب ولده المحسن وأصحابه وأخذ منهم أموالًا جمة‏.‏

و في هذه السنة عُزل نِزال عن شُرطة بغداد وجُعل فيها نجح الطولونيُّ وجُعل في الأرباع فقهاء يكون عمل أصحاب الشُّرطة بفتواهم فضعفت هيبة السلطنة بذلك وطمع اللصوص والعيّارون وكثرت الفتن وكُبست دور التجار وأُخذت بنات الناس في الطريق المنقطعة وكثر المفسدون‏.‏

و في هذه السنة جهّز المهديُّ صاحب إفريقية جيشًا كثيفًا مع ابنه أبي القاسم وسيّرهم إلى مصر وهي المرّة الثانية فوصل إلى الإِسكندريّة في ربيع الآخر سنة سبع وثلاثمائة فخرج عامل المقتدر عنها ودخلها القائم ورحل إلى مصر فدخل الجيزة وملك الأشمونين وكثيرًا من الصعيد وكتب إلى أهل مكّة يدعوهم إلى الدخول في طاعته فلم يقبلوا منه‏.‏

ووردت بذلك الأخبار إلى بغداد فبعث المقتدر بالله مؤنسًا الخادم في شعبان وجدّ في السير فوصل إلى مصر وكان بينه وبين القائم عدّة وقعات ووصل من إفريقية ثمانون مركبًا نجدةً للقائم فأرست بالإِسكندريّة وعليها سليمان الخادم ويعقوب الكُتاميُّ وكانا شجاعين فأمر المقتدر بالله أنّ يسيّر مراكب طَرَسُوس إليهم فسار خمسة وعشرون مركبًا وفيها النفط والعُدد ومقدّمها أبو اليمن فالتقت المراكب بالمراكب واقتتلوا على رشيد فظفر أصحاب مراكب المقتدر وأحرقوا كثيرًا من مراكب إفريقية وهلك أكثر أهلها وأُسر منهم كثير وفي الأسرى سليمان الخادم ويعقوب فقُتل من الأسرى كثير وأُطلق كثير ومات سليمان في الحبس بمصر وحُمل يعقوب إلى بغداد ثمّ هرب منها وعاد إلى أفريقية‏.‏

وأمّا عسكر القائم فكان بينه وبين مؤنس وقعات كثيرة وكان الظفر لمؤنس فلُقّب حينئذ بالمظفَّر‏.‏

ووقع الوباء في عسكر القائم والغلاء فمات منهم كثير من الناس والخيل فعاد من سلم إلى إفريقية‏.‏

وسار عسكر مصر في أثرهم حتّى أبعدوا فوصل القائم إلى المهديّة في رجب من السنة‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة غزا بشر الأفشينيُّ بلاد الروم فافتتح عدّة حصون وغنم وسلم وغزا ثمل في بحر الروم فغنم وسبى وعاد وكان على الموصل أبو أحمد بن حماد الموصليُّ‏.‏

وفيها دخل جنّيّ الصفوانيُّ بلاد الروم فنهب وخرّب وأحرق وفتح وعاد فقرئت الكتب على المنابر ببغداد بذلك‏.‏

وفيها وقعت فتنة ببغداد بين العامّة والحنابلة فأخذ الخليفة جماعة منهم وسيّرهم إلى البصرة فحُبسوا‏.‏

وفيها أمر المقتدر ببناء بيمارستان فبُني وأُجري عليه النفقات الكثيرة وكان يسمّى البيمارستان المقتدريّ‏.‏

وفيها توفّي القاضي محمّد بن خلف بن حيّان أبو بكر الضَّبّيُّ المعروف بوكيع وكان عالمًا

بأخبار الناس وغيرها وله تصانيف حسنة والقاضي أبو العبّاس أحمد بن عمر بن سريج الفقيه الشافعيُّ وله سبع وخمسون سنة‏.‏

وفيها مات كُنَيْز المغنّي وهو مشهور بالحذق في الغناء‏.‏

كُنيز بضمّ الكاف وفتح النون وآخرها زاي‏.‏

  ثم دخلت سنة سبع وثلاثمائة

في هذه السنة ضمن حامد بن العبّاس أعمال الخراج والضياع الخاصّة والعامّة والمستحدثة والفراتيّة بسواد بغداد والكوفة وواسط والبصرة والأهواز وأصبهان‏.‏

وسبب ذلك أنّه لمّا رأى أنّه قد تعطّل عن الأمر والنهب وتفرّد به عليُّ ابن عيسى شرع في هذا ليصير له حديث وأمر ونهي واستأذن المقتدر في الانحدار إلى واسط ليدبّر أمر ضمانه الأوّل فأذن له في ذلك فانحدر إليها واسم الوزارة عليه وعليُّ بن عيسى يدبّر الأمور وأظهر حامد زيادة ظاهرة في الأموال وزاد زيادة متوفّرة فسُرّ المقتدر بذلك وبسط يد حامد في الأعمال حتّى خافه عليُّ بن عيسى‏.‏

ثمّ إنّ السعر تحرّك ببغداد فثارت العامّة والخاصّة لذلك واستغاثوا وكسروا المنابر وكان حامد يخزن الغلال وكذلك غيره من القوّاد ونُهبت عدّة من دكاكين الدقّاقين فأمر المقتدر بإحضار حامد بن العبّاس فحضر من الأهواز فعاد الناس إلى شغبهم فأنفذ حامد لمنعهم فقاتلوهم وأحرقوا الجسرين وأخرجوا المحبَّسين من السجون ونهبوا دار صاحب الشُّرطة ولم يتركوا له شيئًا فأنفذ المقتدر جيشًا مع غريب الخال فقاتل العامّة فهربوا من بين يديه ودخلوا الجامع بباب الطاق فوكّل بأبواب الجامع وأخذ كلّ من فيه فحبسهم وضرب بعضهم وقطع أيدي من يُعرف بالفساد‏.‏

ثمّ أمر المقتدرُ من الغد فنودي في الناس بالأمان فسكنت الفتنة ثمّ إنّ حامدًا ركب إلى دار المقتدر في الطيّار فرجمه العامّة ثمّ أمر المقتدرُ بتسكينهم فسكنوا وأمر المقتدرُ بفتح مخازن الحنطة والشعير التي لحامد ولأمّ المقتدر وغيرهما وبيع ما فيها فرخصت الأسعار وسكن الناس فقال عليُّ بن عيسى للمقتدر‏:‏ إنّ سبب غلاء الأسعار إنما هو ضمان حامد لأنّه منع من بيع الغلال في البيادر وخزنها فأمر بفسخ الضمان عن حامد وصرف عُمّاله عن السواد وأمر عليَّ بن عيسى أن يتولّى ذلك فسكن الناس واطمأنّوا وكان أصحاب حامد يقولون إنّ ذلك الشغب كان بوضع من عليّ بن عيسى‏.‏

في هذه السنة ظفر الأمير نصر بن أحمد صاحب خراسان وما وراء النهر بأحمد بن سهل ونحن نذكر حاله من أوّله‏.‏

كان أحمد بن سهل هذا من كبار قوّاد الأمير إسماعيل بن أحمد وولده أحمد بن إسماعيل وولده نصر بن أحمد وقد تقدّم من ذكر تقدُّمه على الجيوش في الحروب ما يدلّ على علوّ منزلته‏.‏

وهو أحمد بن سهل بن هاشم بن الوليد بن جبَلة بن كامكار بن يزدجرد ابن شهريار الملك وكان كامكار دهقانًا بنواحي مرو وإليه يُنسب الورد الكامكاريُّ وهو الشديد الحمرة وهو الذي يسمّى بالرَّيّ القصرانيّ وبالعراق والجزيرة والشام الجُوريّ يُنسب إلى قصران وهي قرية بالرَّيّ وإلى مدينة جور وهي من مدن فارس‏.‏

وكان لأحمد إخوة يقال لهم محمّد والفضل والحسين قُتلوا في عصبية العرب والعجم بمَرو وكان أحمد خليفة عمرو بن الليث على مَرو فقبض عليه عمرو ونقله إلى سِجِسْتان فحبسه بها فرأى وهو في السجن كأنّ يوسف النبيّ عليه السلام على باب السجن فقال له‏:‏ ادعُ الله أن يخلّصني ويولّيني‏!‏ فقال له‏:‏ قد أذن الله في خلاصك لكنّك لا تلي عملًا برأسك‏.‏

ثمّ إنّ أحمد طلب الحمّام فأُدخل إليه فأخذ النورة فطلى بها رأسه ولحيته فسقط شعره وخرج من الحمّام ولم يعرفه أحد فاختفى فطلبه عمرو فلم يظفر به ثمّ خرج من سِجِسْتان نحو مرو فقبض على خليفة عمرو واستولى عليها واستأمن إلى إسماعيل بن أحمد بخارى فأكرمه وقدّمه ورفع قدره وكان عاقلًا كتومًا لأسراره‏.‏

فلمّا عصى الحسين بن عليّ سيّر إليه أحمد فظفر به على ما ذكرناه وضمن له الأمير نصر أشياء لم يفِ له بها فاستوحش من ذلك فأتاه يومًا بعض أصحاب أبي جعفر صعلوك فحادثه فأنشده أحمد بن سهل وقد ذكر حاله وأنّهم لم يفوا له بما وعدوه‏:‏ ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتَني يميَنك فانظر أيّ كفّيْك تُبدلُ وفي الناس أن رثّت حبالُك واصلٌ وفي الأرض عن دار العُلى متحوَّلُ إذا أنت لم تُنصفْ أخاك وجدتَه على طرَف الهِجران إن كان يعقِلُ وتركبُ حدّ السيفِ من أن تُضيمَه إذا لم يكن عن شَفرَةِ السيفِ مرحلُ إذا انصرفتْ نفسي عن الشيء لم تكدْ إليه بوجهٍ آخرَ الدهرِ تُقُبِلُ قال‏:‏ فعلمت أنّه قد أضمر المخالفة فلم تمض إلا أيّام حتّى خالفه بنَيسابور واستولى عليها وأسقط خطبة السعيد نصر بن أحمد وأنفذ رسولًا إلى بغداد يخطب له أعمال خُراسان‏.‏

وسار من نَيسابور إلى جُرجان وبها قراتكين فحاربه واستولى عليها وأخرج قراتكين عنها ثمّ عاد إلى خُراسان وقصد مرو فاستولى عليها وبنى عليها سورًا وتحصّن بها فأرسل إليه السعيد نصر الجيوش مع حموية بن عليّ من بخارى فوافى مرو الرُّوذ فأقام بنواحيها ليخرج إليه أحمد بن سهل منها فلم يفعل‏.‏

ودخل بعض أصحاب أحمد عليه يومًا وهو يفكر بعد نزول حموية عليه فقال له صاحبه‏:‏ لا شكّ أنّ الأمير مشغول القلب لهذا الخطب فما هو رأي الأمير فقال‏:‏ ليس بي ما تظنّ ولكن

ذكرتُ رؤيا رأيتُها في حبس سِجِسْتان وذكر قول يوسف الصِّدِّيق عليه السلام‏:‏ إنّك لا تلي عملًا برأسك‏.‏

قال‏:‏ فقلت له‏:‏ إنّ القوم يغتنمون سلمك ويعطونك ما تريد فإن رأيت أن يتوسّط الحال فعلنا فأنشد‏:‏ سأغسلُ عنّي العارَ بالسيفِ جالبًا عليَّ قضاءُ الله ما كانَ جالبا ولّما رأى حموية أنّه لا يخرج إليه من مرو عمل الحيلة في ذلك فجعل يقول‏:‏ قد أدخلتُ ابن سهل في جحر فأرٍ وسددتُ عليه وجوه الفرار وأشباه هذا من الكلام ليغضب أحمد فيخرج فلم يفعل ذلك فحينئذ أمر حموية جماعة من ثقات قوّاده فكاتبوا أحمد بن سهل سرًّا وأظهروا له الميل ودعوه إلى الخروج من مَرْو ليسلّموا إليه حموية فأجابهم إلى ذلك لما في نفسه من الغيظ على حموية فخرج عن مَرْو نحو حموية فالتقوا على مرحلة من مرو الرُّوذ في رجب سنة سبع وثلاثمائة فانهزم أصحاب أحمد وحارب هو إلى أن عجزت دابّته فنزل عنها واستأمن فأخذوه أسيرًا وأنفذوه إلى بخارى فمات بها في الحبس في ذي الحجّة من سنة سبع وثلاثمائة‏.‏

وكان الأمير احمد بن إسماعيل بن أحمد يقول‏:‏ لا ينبغي لأحمد بن سهل أن يغيب عن باب السلطان فإنّه أن غاب عنه أثار شغلًا عظيمًا كأنّه كان يتوسّم فيه ما فعل فهكذا ينبغي أن تكون فراسة الملك‏.‏

  ذكر عدّة حوادث

في هذه السنة وقع حريق بالكرخ من بغداد فاحترق فيه كثير من الدور والناس‏.‏

وفيها قُلّد إبراهيم بن حمدان ديار ربيعة وقُلّد بنّيّ بن نفسي شهرزور فامتنعت عليه فاستمدّ المقتدر فسيّر إليه جيشًا فحصرها ولم يفتحها وقُلّد القتال بالموصل وأعمالها‏.‏

وفيها أوقع ثمل متولِّي الغزو في البحر بمراكب للمهديّ العلويّ صاحب إفريقية وقتل جماعة ممّن فيها وأسر خادمًا له‏.‏

وفيها انقضّ كوكب عظيم فاشتدّ ضوءُه وعظم وتفرّق ثلاث فرق وسمع عند انقضاضه مثل صوت الرعد الشديد ولم يكن في السماء غيم‏.‏

وفيها كانت فتنة بالموصل بين أصحاب الطعام وبين الأساكفة واحترق سوق الأساكفة وما فيه وكان الوالي على الموصل وأعمالها العبّاس بن محمّد بن إسحاق بن كنداج وكان خارجًا عن البلد فسمع بالفتنة فرجع ليوقع بأهل الموصل فعزموا على قتاله وحصنوا البلد وسدّوا الدروب فلمّا علم بذلك ترك قتالهم وأمر الأعراب بتخريب الأعمال فصاروا يقطعون الطريق على الجسر وفي الميدان ويقاسمونه فخرب البلد فبلغ الخبر إلى الخليفة فعزله سنة ثمان وثلاثمائة واستعمل بعده عبدالله بن محمّد الفتّان وكان عفيفًا صارمًا كفّ الأعراب عن البلد‏.‏

وفيها توفّي أبو يعلى أحمد بن عليّ بن المُثنّى الموصليُّ صاحب المسند بها‏.‏

  ثم دخلت سنة ثمان وثلاثمائة

في هذه السنة خلع المقتدر على أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان وقُلّد طريق خُراسان والدِّيَنور وخلع على أخويه أبي العلاء وأبي السرايا‏.‏

وفيها وصل رسول أخي صعلوك بالمال والهدايا والتُّحف ويخبر باستمراره على الطاعة للمقتدر بالله‏.‏

وفيها توفّي إبراهيم بن حَمدان في المحرم‏.‏

وفيها توفّي إبراهيم بن محمّد بن سفيان صاحب مسلم بن الحجّاج ومن طريقه يُروى صحيح مسلم إلى اليوم‏.‏

  ثم دخلت سنة تسع وثلاثمائة

  ذكر قتل ليلى بن النُّعمان الديلميّ

في هذه السنة قُتل ليلى بن النُّعمان الديلميُّ وكان ليلى هذا أحد قوّاد أولاد الأُطروش العلويّ وكان إليه ولاية جُرجان وكان قد استعمله عليها الحسن ابن القاسم الداعي سنة ثمان وثلاثمائة وكان أولاد الأُطروش يكاتبونه‏:‏ المؤيِّد لدين الله المنتصر لآل رسول الله ـ صلى الله علية وسلم ـ ليلى بن النُّعمان وكان كريمًا بذّالًا للأموال شجاعًا مقدامًا على الأهوال‏.‏

وسار من جُرجان إلى الدَّامغان فحاربه أهلها فقتل منهم مقتلة عظيمة وعاد إلى جُرجان فابتنى أهل الدَّامغان حصنًا يَحميهم وسار قراتكين إليه بجُرجان فحاربه على نحو عشرة فراسخ من جُرجان فانهزم قراتكين واستأمن غلامه بارس إلى ليلى ومعه ألف فارس فأكرمه ليلى وزوّجه أخته واستأمن إليه أبو القاسم بن حفص ابن أخت أحمد بن سهل فأكرمه ليلى‏.‏

ثمّ إنّ الأجناد كثروا على ليلى بن النعمان فضاقت الأموال عليه فسار نحو نَيسابور بأمر الحسن بن القاسم الداعي وتحريض أبي القاسم بن حفص وكان بها قراتكين فوردها في ذي الحجّة سنة ثمان وثلاثمائة وأقام بها الخطبة للداعي وأنفذ السعيد نصر من بخارى إليه حموية بن عليّ فالتقوا بطوس واقتتلوا فانهزم أكثر أصحاب حموية بن عليّ حتّى بلغوا مَرْو وثبت حموية ومحمّد بن عبدالله البلغميُّ وأبو جعفر صعلوك وخوارزم شاه وسيمجور الدواتيُّ فاقتتلوا فانهزم بعض أصحاب ليلى ومضى ليلى منهزمًا فدخل ليلى سكّة لم يكن له فيها مخرج ولحقه بغرا فيها فلم يقدر ليلى على الهرب فنزل وتوارى في دار فقبض عليه بغرا وأنفذ إلى حمويه فأعلمه بذلك فأنفذ من قطع رأس ليلى ونصبه على رمح فلمّا رآه أصحابه طلبوا الأمان فأُمّنُوا‏.‏

ثمّ قال حموية للجند‏:‏ قد مكّنكم الله من شياطين الجيل والدَّيلم فأبيدوهم واستريحوا منهم أبد الدهر فلم يفعلوا وحامى كلّ قائد جماعة فخرج منهم من خرج بعد ذلك وكان قتل ليلى في ربيع الأوّل سنة تسع وثلاثمائة وحُمل رأسه إلى بغداد وبقي بارس غلام قراتكين بجرجان‏.‏

وقيل إنّ حموية لمّا سار إلى قتال ليلى قيل له‏:‏ أنّ ليلى يستبطئك في قصده فقال‏:‏ إنّي البس أحدَ خُفَّيّ للحرب العامَ والآخر في العام المقبل فبلغ قوله ليلى فقال‏:‏ لكنّي ألبس أحد خُفّيّ للحرب قاعدًا والثاني قائمًا وراكبًا فلمّا قُتل قال حموية‏:‏ هكذا مَن تعجّل إلى الحرب‏.‏

في هذه السنة قُتل الحسين بن منصور الحلاّج الصوفيُّ وأُحرق وكان ابتداء حاله أنّه كان يُظهر الزهد والتصوّف ويُظهر الكرامات ويخرج للناس فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ويمدّ يده إلى الهواء فيعيدها مملوءة دراهم عليها مكتوب‏:‏ ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ ويسمّيها دراهم القدرة ويخبر الناس بما أكلوه وما صنعوه في بيوتهم ويتكلّم بما في ضمائرهم فافتتن به خلق كثير واعتقدوا فيه الحلول وبالجملة فإنّ الناس اختلفوا فيه اختلافهم في المسيح عليه السلام فَمِنْ قائل أنّه حلّ فيه جزء ألهيّ ويدّعي فيه الربوبيّة ومِن قائل أنّه وليّ الله تعالى وإنّ الذي يظهر منه من جملة كرامات الصالحين ومِن قائل إنّه مشعبذ وممَخرق وساحر كذّاب ومتكهّن والجنّ تطيعه فتأتيه بالفاكهة في غير أوانها‏.‏

وكان قدم من خُراسان إلى العراق وسار إلى مكّة فأقام بها سنة في الحجر لا يستظلّ تحت سقف شتاءً ولا صيفًا وكان يصوم الدهر فإذا جاء العشاء أحضر له القوّام كوز ماء وقرصًا فيشربه وبعض من القرص ثلاث عضّات من جوانبه فيأكلها ويترك الباقي فيأخذونه ولا يأكل شيئًا آخر إلى الغد آخر النهار‏.‏

وكان شيخ الصوفيّة يومئذ بمكّة عبدالله المغربيّ فأخذ أصحابه ومشى إلى زيارة الحلاّج فلم يجده في الحجر وقيل له‏:‏ قد صعد إلى جبل أبي قُبَيس فصعد إليه فرآه على صخرة حافيًا

مكشوف الرأس والعرق يجري منه إلى الأرض فأخذ أصحابه وعاد ولم يكلّمه فقال‏:‏ هذا يتصبّر ويتقوّى على قضاء الله سوف يبتليه الله بما يعجز عنه صبره وقدرته وعاد الحسين إلى بغداد‏.‏

وأمّا سبب قتله فإنّه نُقل عنه عند عوده إلى بغداد إلى الوزير حامد ابن العبّاس أنّه أحيا جماعة وأنّه يحيي الموتى وأنّ الجنّ يخدمونه وأنّهم يُحضرون عنده ما يشتهي وأنّه قد موّه على جماعة من حواشي الخليفة وأنّ نصرًا الحاجب قد مال إليه وغيره فالتمس حامد الوزير من المقتدر بالله أن يسلّم إليه الحلاّج وأصحابه فدفع عنه نصر الحاجب فألحّ الوزير فأمر المقتدر بتسليمه إليه فأخذه وأُخذ معه إنسان يُعرف بالشمريّ وغيره قيل إنّهم يعتقدون أنّه إلهٌ فقرّرهم فاعترفوا أنّهم قد صحّ عندهم أنّه إلهٌ وأنّه يحيي الموتى وقابلوا الحلاّج على ذلك فأنكره وقال‏:‏ أعوذ بالله أن ادّعي الربوبيّة أبو النّبّوة وإنّما أنا رجل أعبد الله عزّ وجلّ‏!‏ فأحضر حامد القاضي أبا عمرو والقاضي أبا جعفر بن البهلول وجماعة من وجوه الفقهاء والشهود فاستفتاهم فقالوا‏:‏ لا يفتى في أمره بشيء إلاّ أن يصحّ عندنا ما يوجب قتله ولا يجوز قبول قول مَن يدّعي عليه ما ادعاه إلا ببيّنة إقرار‏.‏

وكان حامد يخرج الحلاّج إلى مجلسه ويستنطقه فلا يظهر منه ما تكرهه الشريعة المطهرة‏.‏

وطال الأمر على ذلك وحامد الوزير مجدّ في أمره وجرى له معه قصص يطول شرحها وفي آخرها أنّ الوزير رأى له كتابًا حكى فيه أنّ الإنسان إذا أراد الحجّ ولم يمكنه أفرد من داره بيتًا لا يلحقه شيء من النجاسات ولا يدخله أحد فإذا حضرت أيّام الحجّ طاف حوله وفعل ما يفعله الحاجّ بمكّة ثمّ يجمع ثلاثين يتيمًا ويعمل أجود طَعامٍ يمكنه ويُطعمُهُم في ذلك البيت ويَخدُمهم بنفسه فإذا فرغوا كساهم وأعطى كلّ واحد منهم سبعة دراهم فإذا فعل ذلك كان كمَنْ حجّ‏.‏

فلمّا قرئ هذا على الوزير قال القاضي أبو عمرو للحلاّج‏:‏ من أين لك هذا قال‏:‏ من كتاب الإخلاص للحسن البصريّ قال له القاضي‏:‏ كذبتَ يا حلالَ الدم‏!‏ قد سمعناه بمكّة وليس فيه هذا فلمّا قال له‏:‏ يا حَلالَ الدمِ وسمعها الوزير قال له‏:‏ اكتب بهذا فدافعه أبو عمرو فألزمه حامد فكتب بإباحة دمه وكتب بعده من حضر المجلس‏.‏

ولّما سمع الحلاّج ذلك قال‏:‏ ما يحلّ لكم دمي واعتقادي الإسلام ومذهبي السُّنّة ولي فيها كتب موجودة فالله الله في دمي‏!‏ وتفرّق الناس‏.‏

وكتب الوزير إلى الخليفة يستأذنه في قتله وأرسل الفتاوى إليه فأذن في قتله فسلّمه الوزير إلى صاحب الشّرطة فضربه ألف سوط فما تأوّه ثمّ قطع يده ثم رجله ثم يده ثمّ رجله ثمّ قُتل وأُحرق بالنار فلمّا صار رمادًا أُلقي في دجلة ونصب الرأس ببغداد وأُرسل إلى خُراسان لأنّه كان له بها أصحاب فأقبل بعض أصحابه يقولون‏:‏ إنّه لم يُقتل وإنّما أُلقي شبه على دابّة وإنّه يجيء بعد أربعين يومًا وبعضهم يقول‏:‏ لقيتُه على حمار بطريق النَّهروان وإنّه قال لهم‏:‏ لا تكونوا مثل هؤلاء البقر الذي يظنّون أنّي ضُربت وقُتلتُ‏.‏